المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية: قراءة في السياقات الخفية وأدوار الهيمنة

في خضم سيل التحليلات السياسية والعسكرية التي رافقت اندلاع المواجهة بين إسرائيل وإيران في 13 حزيران الجاري، تأتي هذه المقالة كمحاولة لقراءة تتجاوز ظاهر التصريحات العلنية نحو تفكيك السياقات غير المُعلنة التي تُحيط بهذه الحرب. فالضربة الإسرائيلية التي نفذت بعد يوم واحد فقط من إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن انتهاكات إيرانية للاتفاق النووي، وبعد انقضاء المهلة الأميركية للمفاوضات مع طهران، لا تبدو استجابة طارئة، بل تشير إلى تنسيق محسوب مع الإيقاع السياسي الدولي. ومن المرجح أن هذا التوقيت لم يكن اعتباطيًا، بل جاء ضمن خطة مدروسة تنسجم مع مصالح دوائر القرار الغربية، وتندرج في إطار أوسع لإعادة رسم التوازنات الإقليمية.
بهذا المعنى، لا يمكن فصل هذه الضربة عن ديناميات نظام عالمي يعيد إنتاج الفوضى كأداة دائمة للهيمنة. فالنظام النيوليبرالي العالمي، القائم على تعظيم نفوذ رأس المال وتقليص دور الدولة، لا يكتفي بإشعال الحروب، بل يتقن توظيفها عبر منظومة مترابطة من الأدوات: من صندوق النقد الدولي، إلى احتكار تجارة السلاح والغذاء، مرورًا بهيمنة الإعلام العالمي واستخدام حق الفيتو في مجلس الأمن. وضمن هذا السياق، تلعب إسرائيل دور القاعدة المتقدمة للمشروع الغربي في الشرق الأوسط، في حين تُمنح إيران دورًا محسوبًا يُبقي المنطقة في حالة احتقان دائم، يُبرر التدخلات الخارجية ويعيق أي فرصة لاستقرار حقيقي طويل الأمد.
رغم الخطاب الثوري الذي ترفعه طهران، فإن الدور الإيراني في المنطقة أسهم فعليًا في تأجيج النعرات الطائفية وتفكيك المجتمعات العربية. فبدعمها ميليشيات مذهبية في سوريا ولبنان والعراق واليمن، ساهمت في تمزيق النسيج الاجتماعي وتعطيل القضايا الوطنية الجامعة، ما عمّق الانقسامات الداخلية وخدم – من دون إعلان – أهدافًا تتقاطع مع مصالح النظام العالمي في إضعاف الدول وتفكيك وحدتها. كما حاولت توسيع نفوذها في بعض دول الخليج عبر استثمار التوترات المذهبية، لكنها اصطدمت برفض شعبي ورسمي حدّ من قدرتها على التمدد.
وفي هذا الإطار، وظفت إيران دعمها للقضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي كأداة لتعزيز حضورها الإقليمي، وربط مشروع "التحرر" بمصالحها الجيوسياسية، ما أفرغ هذا الدعم من مضمونه التحرري في كثير من الأحيان، وحوّله إلى ورقة ضغط تخدم تموضعها في معادلات القوة، لا بالضرورة مصالح الشعب الفلسطيني. وبهذا الشكل، يُعاد إنتاج "الدور الإيراني" ضمن هندسة إقليمية مضبوطة، تحافظ على حالة التوتر دون الإخلال بتوازنات الهيمنة الكبرى.
وهكذا، لا تنحصر الحرب الإسرائيلية–الإيرانية في بعدها النووي أو تنازع النفوذ الإقليمي، بل تنكشف كواجهة لصراع أوسع تُوظف فيه أدوات الخطاب، والرمز، والتاريخ، إلى جانب القوة العسكرية، لإعادة إنتاج الخوف، وترسيخ الاصطفافات، وتعطيل أي مشروع تحرري مستقل. ومن هذا المنظور، يغدو الخطاب الإسرائيلي المُوجه إلى الشعب الإيراني جزءًا من استراتيجية استعمارية متجددة، تُفصل فيها صورة "النظام" عن "الشعب"، وتُقدّم إسرائيل – بمنطق المُخلص المتفوق – كفاعل خير لا كقوة هيمنة.
هذا الخطاب ليس جديدًا، بل يعيد إنتاج تقاليد استعمارية قديمة مهدت للاجتياحات بخطابات "التحرير" والتعاطف مع الشعوب. سبقه المغول برسائلهم إلى أهل بغداد، ونابليون بخطابه للمصريين عند دخوله القاهرة مدعيًا نصرة الإسلام، وبريطانيا حين صورت احتلالها لفلسطين كوسيلة لحماية السكان وتحقيق "السلام". وعلى هذا المنوال، خاطب نتنياهو "الشعب الفارسي النبيل"، زاعمًا أن إسرائيل ليست في صراع مع الإيرانيين، بل مع "نظامهم القمعي"، مشبهًا إياها بكورش الفارسي الذي "حرر اليهود"، ومؤكدًا أن إسرائيل ستُحرر الفرس اليوم من جديد.
غير أن هذا الخطاب، رغم طابعه العاطفي المتعمد، ينطوي على توظيف سياسي محسوب، يستثمر في الرموز التاريخية والسرديات الأخلاقية لتبرير الهيمنة وإعادة إنتاجها. فالكلمات هنا تتحول إلى أداة موازية للسلاح، تُستخدم لتشكيل الوعي وتوجيه الإدراك، تمامًا كما تفعل الجيوش على الأرض. ورغم التوتر الظاهري بين إيران وإسرائيل منذ الثورة الإسلامية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، إلا أن هذا العداء لم يمنع الطرفين من أداء أدوار وظيفية داخل منظومة الهيمنة العالمية، تُبقي الصراع مشتعلًا دون أن تمس فعليًا البنية العميقة التي يستفيد منها الجميع – كل بحسب مصالحه.
خلاصة القول، إن المواجهة بين إسرائيل وإيران لا يمكن فصلها عن البنية الأوسع للنظام العالمي، الذي يعيد إنتاج الفوضى والصراعات كأدوات دائمة للهيمنة. ففيما تؤدي إسرائيل دور رأس الحربة في المشروع الغربي، أُنيط بإيران – رغم خطابها المناهض – دور مكمّل يُبقي المنطقة في حالة انقسام وتفكك دائمين. وبينما تروّج تل أبيب لنفسها كقوة "تحرير"، توظف طهران خطاب المقاومة لتمرير تدخلاتها الطائفية، التي ألحقت دمارًا بالغًا بالمجتمعات العربية في سوريا، والعراق واليمن ولبنان.
وقد خلف هذا الدور الإيراني ندوبًا عميقة في الوعي الجمعي العربي، بعدما اقترنت سياساته بالذبح والتدمير على أساس الهوية المذهبية، ورسخت عداءات تجاوزت الأنظمة إلى الشعوب. وإذا كانت إيران جادة في استعادة مكانة مشرفة في الإقليم، فلا مفر من مراجعة شاملة لمشروعها، تتضمن اعترافًا صريحًا بانحرافاته، واعتذارًا صادقًا عن الجرائم السياسية والطائفية التي ارتُكبت باسمه.
لكن في المقابل، لا يمكن للعرب والمسلمين البقاء أسرى الخلافات الطائفية والسياسية، في لحظة تاريخية تكشف عن استهداف أشمل. فما بعد 7 أكتوبر2023 ليس كما قبله؛ إذ أفرزت هذه اللحظة انهيارًا في قواعد اللعبة القديمة، ودفعًا بإسرائيل نحو مزيد من التوحش والانكشاف، ما يجعل استمرار إيران في التصعيد دون مراجعة وقودًا محتملًا لمرحلة تدميرية لا تُبقي ولا تذر.
لقد بات الدور الوظيفي الذي مُنح لإيران في العقود الماضية يشارف على نهايته، في ظل تحولات إقليمية ودولية لم تعد تسمح بإعادة إنتاج الأدوار القديمة بالآليات ذاتها. ولم تعد المواجهة مجرد تنازع نفوذ إقليمي، بل غدت جزءًا من مشروع تفكيك ممنهج يستهدف كل دولة تمتلك مقومات الاستقلال. وإيران – رغم كل ما يعتري دورها – ليست سوى محطة أولى في مسار قد يطال تركيا وباكستان وسائر دول المنطقة.
وعليه، فإن مسؤولية اللحظة تفرض تجاوز الحسابات الضيقة، والانطلاق نحو وعي جمعي جديد يُعيد ترتيب أولويات الصراع، ويؤسس لمشروع تحرري جامع، يُنهي ارتهان الشعوب لمنظومة الهيمنة والفوضى، ويضع حدًا لعقود من الانقسام الذي طالما استفاد منه أعداء الأمة.