الرئيسية خاطرة

نخاف من الحرية

غزال أبو ريا
نُشر: 31/07/25 22:55
نخاف من الحرية

نخاف من الحرية.
ما بين أفلاطون وفريري: حين تُصبح العبودية عادة، وتُرعبنا فكرة التحرر
بقلم: غزال أبو ريا

«لو أمطرت السماء حرية، لرفع العبيد مظلات» — بهذه العبارة الموجعة، عبّر الفيلسوف أفلاطون عن مفارقة إنسانية عميقة: أن الخوف من الحرية قد يكون أشد من القمع ذاته. فالعبودية لا تُفرض دائمًا بالسلاسل والأوامر، بل كثيرًا ما تُزرع في العقول، وتتشكل في النفوس، لتتحول مع الزمن إلى نمط حياة مألوف، بل ومُحبّذ لدى بعض الناس.

الإنسان الذي ينشأ في بيئة يسودها القمع أو الخوف، يتأقلم مع القيود، ويُعيد تشكيل ذاته لتناسبها. تصبح الطاعة راحة نفسية، والتبعية أمانًا، بينما تبدو الحرية عبئًا ثقيلًا، لأنها تعني الاختيار والمساءلة واحتمال الفشل. في المقابل، تعفي العبودية صاحبها من المسؤولية، وتمنحه وهم الاستقرار، وإن كان الثمن هو التنازل عن الكرامة والقرار.

هذه المقولة الفلسفية ليست مجرد حكمة قديمة، بل هي مرآة لواقعنا اليوم. فكثيرًا ما نشهد مجتمعات تتحرر من أنظمة استبدادية، لكنها تواجه صعوبة في تقبّل الحرية، بل وتُبدي حنينًا إلى “القبضة الحديدية”. وكأن الحرية سقطت على أرض غير مهيّأة لاستقبالها، فاندفع البعض إلى رفع “مظلات” الخوف والتردد، بدلًا من استقبال مطر التحرر والتغيير.

من الواقع ما يؤكد هذه الرؤية:
في عدد من الدول التي عاشت عقودًا طويلة تحت أنظمة شمولية، جاءت لحظة التغيير، وسقطت الرموز السلطوية. لكن بدلاً من بناء نظام ديمقراطي تعددي، ظهرت أصوات تطالب بعودة “النظام الصارم”، بحجة الخوف من الفوضى و”الحرية الزائدة”. هؤلاء لم يعتادوا أن يكونوا مواطنين أحرارًا، بل ظلوا رعايا ينتظرون من يرسم لهم طريقهم.

وفي هذا السياق، نجد تطابقًا لافتًا مع ما طرحه المفكر التربوي البرازيلي باولو فريري في كتابه “تعليم المقهورين”. فقد تحدث عن نفسية المقهور، التي لا تكتفي بالخضوع، بل تصل حد التماهي مع الجلاد. فالمقهور، حين لا يتلقى تربية تحرره داخليًا، يُعيد إنتاج القمع، ويُقلد المضطهِد، لأنه لم يتعلم كيف يكون حرًا. وعندما يُعرض عليه التحرر، يرتبك، ويخاف، بل يرفضه، لأنه لا يمتلك أدوات الوعي التي تؤهله لتحمل مسؤولية الحرية.

واقعنا العربي: بين الحلم والتردد
إن ما تحدثنا عنه من خوف الحرية وتماثل المقهور مع القامع، ينعكس بشكل واضح على المشهد العربي المعاصر. فقد شهدت العديد من الدول العربية ثورات وانتفاضات شعبية طالبت بالحرية والكرامة والعدالة، لكنها سرعان ما اصطدمت بواقع معقد من الخوف وعدم الاستقرار.

الكثير من الشعوب العربية، التي عاشت لعقود تحت أنظمة استبدادية، تجد نفسها اليوم أمام تحديات التحرر الحقيقية. لم تُبنَ ثقافة الحرية والمساءلة والتشارك، بل بقيت نماذج القمع والتبعية متجذرة في العقول والنفوس. وهذا ما يجعل البعض يتوق إلى “الأمان” الذي اعتادوه، حتى لو كان “أمانًا” مزيفًا.

نرى كيف تتراجع بعض الحركات الشعبية أمام ضغوط الفوضى السياسية، أو تُعاد تأهيل أنظمة قديمة، ويُعاد إنتاج أشكال القمع تحت شعارات مختلفة. وهذا يعكس الحالة التي وصفها أفلاطون وفريري: الخوف من الحرية، والتماثل مع المضطهِد، والنأي عن المسؤولية التي تأتي مع التحرر.

ولذا، فإن التغيير الحقيقي في العالم العربي لا يمكن أن يقوم فقط على إسقاط الأنظمة، بل يحتاج إلى ثورة ثقافية وفكرية شاملة تُعلّم الإنسان قيمة الحرية، وكيفية ممارستها، وتُنمّي وعيه بالذات والآخر، وتقوي منسوب ثقافة المشاركة والحوار.

فإذا لم تزرع هذه القيم، تبقى “مظلات” الخوف والجمود مرفوعة، مهما امطرت السماء حريات.

فالحرية، كما قال أفلاطون، قد تهطل كالمطر. لكن السؤال الأهم: هل نحن مستعدون لاستقبالها، أم سنهرع للاحتماء بها؟