الرئيسية خاطرة

قراءة لديوان "لماذا تأخرتِ دهراً؟" للشاعر يحيى السماوي

رانية فؤاد مرجية
نُشر: 05/08/25 09:34
قراءة لديوان "لماذا تأخرتِ دهراً؟" للشاعر يحيى السماوي

في ديوان “لماذا تأخرتِ دهراً؟”، لا نقرأ شعراً فحسب، بل نعبر أنفاقَ الروح المعتمة والمضيئة معاً، نتلمس وجع المنافي، نلوِّن الشوق بدم القصيدة، ونصغي إلى نشيد عاشقٍ صوفيٍّ أعياه الحنين فارتقى به إلى مرتبة الحكمة. هذا العمل ليس فقط وثيقة شعرية نازفة، بل هو “أناجيل” قلب عاشقٍ، متصوّف في محراب الوجع، مسكون بهاجس الوطن، ومجبول بندى الحبيبة.

هوية القصيدة: صوفية التراب واللهب

تأتي قصائد السماوي كمحارقَ نورانيةٍ ، ترسم من الرماد يقيناً، وتحيل الجرح إلى صلاةٍ معلّقة على وترٍ مشدود بين الأرض والسماء. هو شاعر يعرف أن الأوطان لا تُروى فقط بدماء الجنود، بل أيضاً بدموع العشاق، وأن الحبَّ لا ينفصل عن النضال، وأن الشعر لا يكون شعراً إن لم يكن مقاماً صوفياً يُطهّر القلب من القبح، ويعيد ترتيب الفوضى.

“كامل” الحاضر في غيابه: قصيدة “كامل” ليست مجرد رثاء لكامل شياع، بل تمثال لغائبٍ ينهض من الحروف كأنه نبيّ. لا يقول السماوي إن كامل مات، بل يرسمه عائداً من نبع الخلود، ناطقاً باسم الكادحين والطيّبين. يستحيل “كامل” رمزاً يتجاوز الفرد ليتجلى كبطل ملحميّ اختار القتال بالمحبة، بالحرف، بالنعناع والريحان، لا بالسيف. إنّ القصيدة تتحوّل إلى ترنيمة، فيها من نشيد الإنشاد ومراثي إرميا ما يضع الموت في مواجهة الرجاء، والغياب في مواجهة النبوءة :

فاختار كاملُ أنْ يقاتلْ

بالنورِ لا بالسيفِ

بالنعناعِ والريحانِ

بالحرفِ المناضلْ

وبعشبِ فلاّحٍ

وريشِ حمامةٍ

وبصبرِ عاملْ "
 

على مشارف الستين: في قصيدة “على مشارف الستين”، لا يتصالح الشاعر مع الزمن بل يعاتبه، ويكاد يُشهِر عليه قصاصاً لغوياً مفعماً بالأسى والعرفان. الزمن هنا ليس مجرد عدّاد للعمر، بل خصمٌ يطارد الشاعر، يحاسبه، يُذوّبه في لُجّة الندم، في كؤوسٍ من غيابٍ لا يرتوي. تتوالى مفردات الوجع: الخذلان، الغربة، انطفاء الأحلام، تصدُّع الذات، ويتحوّل الجسد إلى أداة إدانة، والعمر إلى مسرح تراجيديّ بلا ستائر ختامية. لكنّ الشاعر لا يندم على الحبّ بل يندم على ما لم يستطع إنقاذه :

ستون في ركضٍ ولم أصِلِ

نهرَ الأمانِ وواحةَ الأملِ

ستون مرّتْ غيرَ ممطرةٍ

مرَّ الطيوفِ بجفنِ مكتحلِ

أحلى الأماني أن أرى وطني

حُرًّا وقومي دونما كللِ

هوية المرأة بين القداسة والخيانة: المرأة في هذا الديوان ليست جسداً ولا صورةً نمطية. إنها تارةً “ضوئية الشامات”، كأنها أسطورة مشتهاة، وتارةً قاتلة شاعرها، ناسجةً كفنه بمغزل الغدر. هي المجاز المقدس الذي يبدأ بالحب وينتهي بالخذلان. لكنها تظلّ مركز الكون، حتى حين تذبح، تظلّ سيّدة المعبد :

" ياناسجًا كفني بمغزلِ غدرهِ

ومُشمِّتًا بيْ حاسدًا وعذولا

محَضَتكَ أنهاري النميرَ وأوقفتْ

شفتي عليكَ اللثمَ والتقبيلا "

لكنّ السماوي لا يسقط في فخّ الكراهية، بل يحاكم بمرارة العارف. فالقصائد التي تمتلئ بالعتاب، ليست ثأراً من امرأة، بل دعوة إلى فهم الإنسان في هشاشته، وعريه، وانهياراته. هي قصائد عن كيف يصير الحبُّ موتاً نبيلاً، وعن كيف يمكن لجسدٍ أن يصير قصيدة، ولقبلةٍ أن تُستبدَل بدفنٍ رمزيّ في مقبرة الذكريات.

ثنائية المنفى والحنين : الوطن في الديوان هو “الهوى الأول”، هو الجسد الآخر الذي غادر ولم يعد. العراق ليس أرضاً فقط، بل صورةٌ للحنين الذي يأبى أن يشيخ. يكتب السماوي كمن يمسح عن جبين العراق تعبَ العقود، ويرتّل له كما يرتّل الأب لطفله المريض. فبغداد والماء والنخيل والفرات ومقاهي السماوة ليست مشاهد، بل أعضاء مفقودة من جسد الشاعر.

هو يعرف أن العودة إلى الوطن لم تعد ممكنة، لأن الوطن لم يعد هو. ولأن الزمن سرق تفاصيله، والمكان غادر وظيفته الشعورية. ولذلك، فإن العودة الوحيدة الممكنة هي بالقصيدة، وهي وحدها الوطن الذي لا يُحتلّ.

جماليات اللغة: لغة السماوي مشبعة بصور رمزية، ذات طابع أسطوري، صوفي، ولغويّ نبيل. لا يكتفي بالشعر ليقول، بل يصوغ رؤيته الوجودية كاملة. في كل بيت نجد مفردةً مشبعة: النعناع، الربابة، الحناء، المسك، النداء، السندس، البردى، النجوم، السهر، الغمام، الهدهد، الزيتون، التين… وكأنّ الشعراء الحقيقيين لا يكتبون، بل يحيون اللغة في زمن يَشيخ فيه الكلام.

الشعر كحياة بديلة: لعلّ الديوان برمّته هو سيرةُ روحٍ تشتهي أن تعيش في اللغة، لا خارجها. كل قصيدة هي شرفة تطل على خرابٍ حميم، وكل استعارة تحمل في رحمها صرخةَ مولودٍ شعريّ جديد. وهو حين يخاطب الحبيبة، إنما يخاطب ذاته، وطنه، ظلّه، الله.

ختامًا: “لماذا تأخرتِ دهراً؟” هو مرآة شعرية كبرى، يضعها السماوي في وجه الحياة، لا ليتجمّل، بل ليكسرها ويعيد تركيبها من شظايا الطفولة، الحنين، الوطن، والأنوثة الجريحة. في هذا الديوان، نكتشف كيف يمكن للحب أن يكون صلاة، وللمرأة أن تكون أمة، وللوطن أن يكون أنثى، وللشاعر أن يصير راهباً في دير الحروف. هو ديوان لا يُقرأ، بل يُرتّل.